قلاقل | هذا الوقت سوف يمضي ..

قلاقل: الحلقة الأخيرة من الموسم الثاني!

قلتُ ٤٦: إنَّ المتأمل لسلوكيات الناس -وهذا غاية علم التجديف الذي انتهى أخيرًا إلى الجدول الدوري للشخصيات على غرار الجدول الدوري للعناصر في علم الكيمياء-؛ يجد أن الدوافع لسلوكيات الناس عادلة، واستنتاج الشخص لموازينه الخاصة به خاضع للاجتهاد الصِرف، ومحدود بما يهبه الله من عقل لذلك الشخص، لهذا ترى أحيانًا من يقود سيارته بسرعة الطريق الذي يسير فيه ويلتزم المسار الأيسر دون أن يتيح فرصة لمن بعده من قادة السيارات، ظنًّا منه أنه عادل في قراره إذا لم يتح الفرصة لغيره ممن يرغبون بمخالفة النظام وتجاوز السرعة المحددة للطريق، فهو بذلك قويٌّ أمين، لا يأبه للضغوط التي تحول بينه وبين رؤية من يتعمد مخالفة النظام العام، مع أن النظام العام أجبره بأن يتيح الفرصة لغيره حتى لو رغب قائد السيارة التي خلفه أن يسابق الطيارات في السماء، وهذا مثال، وتصنيف عدالات الناس غير العادلة في ذلك كثير، منها:

١- العدالة الظلمية: وفيها جاء المثل المشهور “الشر يعم والخير يخص”.

٢- العدالة الحذرة: وهذه تشمل من يتملّص عن مسؤولياته لغرض الحذر والسلامة، فتجده لا يقف مع المظلوم، ولا يشهد في وجه الظالم، ولا يكلّف نفسه حتى عناء المحاولة، وغير ذلك من السلوكيات الحذرة.

٣- العدالة السائدة: وهذه تشمل أولئك الذين يقومون بتصرفات خاطئة في حق غيرهم لا لسببٍ غير أنها شائعة بين الناس.

٤- العدالة الجاهلة: وهذه تشمل كل من يتخذ تصرفًا بحجة أنه تصرف عادل وهو لا يملك المعرفة الكافية التي تؤهله على الحكم بعدالة التصرفات.

٥- عدالة كفاية الاحتياج: وهذه يجنح فيها صاحب العدالة غير العادلة إلى تقدير الاحتياج الفعلي للمعدول به مما يملكه هذا الأخير، ويظلمه فيما يرى أنّه فائض عن حاجته وفق تقدير الأول، وأصحاب هذه العدالات في الغالب لا يعرفون كارل ماركس وإن كانوا يسلكون مسلكه الاجتماعي في بعض التصرفات والسلوكيات.

٦- عدالة أهل ما بين السدّين: وهذه مشهورة في الدهماء، علت مراتبهم أو دَنَت، وتشمل كل التصرفات الغبية التي قد نلحظها في بعض الرعية، وهؤلاء -أي أهل ما بين السدّين- قال الله تعالى فيهم أنَّهم {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا}.

وعمومًا، فإن مسلك المجدفين في استنتاج موازينهم الخاصة للعدالة هو الاقتداء بيوم الثلاثاء، التزام؛ لكنه في المنتصف تمامًا، تتعذّر محبته، وتتعذّر كذلك عداوته.

“وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى” سورة طه (١٧).


قلتُ ٤٧: آخٍ وأوّاه على ما حدَّثني به أحد الأخوة، وهو ثقة من الثقات، من مصر الحبيبة، تربطني به سنوات من الحب في الله والثقة المتبادلة مُذ درسنا الابتدائية معًا.

طردته شركته التي كان يعمل فيها في بلده تعسّفًا، وقد كان للشركة رئيسٌ عجيبٌ على حد قَصَصِه، يقول صديقي عنه: “لطالما كان ذلك الرئيس محبًا لتاريخ المملكة العربية السعودية حماها الله، ومعجبًا بدخول الموحِّد رحمه الله مع أربعين رجلًا إلى الرياض، وتوحيده للمملكة العظيمة بعد ذلك، فهو -أي رئيسه- يؤمن إيمانًا تامًا في قرارة نفسه بأن أربعين موظفًا يستطيعون أن يصنعوا التغيير في أي منشأة مهما كان حجمها وعدد موظفيها، لكنّ تنظيره الرائع هذا أبعد ما يكون عن واقعه التعيس، فهو إذا اختار أربعين ليصطحبهم معه في رحلة تغيير؛ لا يختارهم لكفاءتهم أو لجودتهم، أو لصلابة إيمانهم بالتغيير، بل يختارهم فقط لأنّهم يُسمعونه ما يحب، ولا يردون له طلبًا”.

قد يبدو رأي صديقي اعتياديًا ومملًا، بل قد يصفه البعض بأنّه حجة معلّبة حريٌّ بها أن تُسطّر في كتاب الحجج الواهية الذي لن يرى النور، فالذي لا يحب رئيسه سيتهمه مباشرة بأنّه يُدني المتملقين، ويبعد الكفاءات المخلصين، ومقياس العدالة متغيّر كما مهّدنا في القلقلة التي سبقت هذه، إلّا أنّني أتبنّى رأيه في رئيسه ذاك، وإن كنت لا أعرف الرئيس؛ ولا سمعت من طرفٍ ثانٍ عنه، إذ تكفيني دلائل الأفعال، لأنّها أشدُّ تثبيتًا من شهادات الرجال.

ولعلّي أقُصُّ عليكم هذا القَصَص:

لهذا الرئيس مستشارين اثنين*، {إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ}، لا تَكَد تؤمن بمشروعٍ عندهم إلّا وسخروا منك، ولا عجب؛ {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}، وقد كان ذلك الرئيس لا يقبل أن يسمع حتى من الأربعين الذين يتملّقونه من حيث الأصل إلا بعد أن يوافقوا هذين الاثنين، فيا ليت شعري ما الذي حلّ بصاحبي.

  • نصبتهما دون اعتبار للمقام النحوي لأنّهما لا يستحقان الرفع.

لقد جاهد صديقي هذه الجماعة المسيطرة التي ألِفَتِ النعمةَ إيلاف قريش، “إِۦلَٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ”، وظل في جهادٍ دائمٍ برفقة مبادئه في مواجهتهم تحت إمرة الاثنين المستشارين، {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، وتمكّن من الانفراد بالرئيس، فأبرأ ذمته وأخبره بأن مواردَ عدّةً قد أُهريقت، ومشاريعَ جمةً قد أُغتيلت، ولا منجى للشركة إلا بالسماع من الجميع، أو على الأقل من الثُلَّةِ الأربعين، الذي هم على التغيير قادرين، فشكره الرئيس على أمانته، وأثنى فيه على شجاعته، بل قال له فيما معناه: “أنت الذي رفعت رأس شركتنا بين الشركات؛ فلماذا لا تكون منزلتك فوق كل المنزلات؟!”، ثم أقسم له الرئيس بالله -وهو في منزل القوي الذي لا يحتاج إلى القسم- أن الخير آت، ووعدَ صديقي ومنَّاه {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}.

عاد صديقي إلى مكتبه متحمّسًا ليستكمل ما أوقفه عليه الاثنين من مشاريع، لكنّه وجد أحد زملائهِ من فريق الأربعين المُغيّرين سعيدًا وهو يقرأ بريدًا إلكترونيًا وصله من الرئيس يشكر فيه فريق المُغيّرين خاصَّته بأساميهم إلّا بضع -والبضع بين الثلاثة والتسعة-، تخيّلوا أنَّهُ أكرمهم جميعاً بالجاه والمال إلّا أولئك البضع، وصديقي من البضع!

كانت الرسالة صريحة، {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، ومن لم أشكره ببريدي هذا فعليه السلام.

طُرِدَ حينها صديقي من وظيفته كما توقَّعتَ يا عزيزي القارئ، ولا أملك لا أنا ولا أنت إلا أن نسأل الله له العون والعوض.

“لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ
سَرى راغِبًا أَو راهِبًا وَهوَ يَعقِلُ”.

– الشنفرى


قلتُ ٤٨:

يا أدعج العينين كيف فتنتني
وسحرتني حتى فقدتُ تعقُّلي

أمسيتُ أُنشِدُ فيكَ شعرًا كلّما
شاهدتُ طيفَكَ في الكرا يتسلَّلِ

يرنو إليَّ لماكَ في سلطانِهِ
وكأنّهُ ملكٌ يضُمُّ ويعزِلِ

بجلالةٍ ومهابةٍ وترَفُعٍ
جَمَعتْ إليها كل خَلْقٍ أفضلِ

فالخدُّ أنعمُ من ملامِسِ ريشةٍ
والوجه أقمرُ من بدورٍ كُمَّلِ

والعقل قد أعطاكَ ربّي موهِبًا
وكذاك روحُكَ من عليٍّ في علِي

وأنا أحاذِرُ من وقوعِي في الردى
والعقلُ يردَعُ والمضامِرُ تأمَلِ

لا تُكثِرِ الغيباتِ عنّي إنّني
اللهُ يعلمُ أنْ فُؤادِي مُثْكَلِ

آثرت ألّا أقتبس هذه المرة | المُقَلقِل.


    قلتُ ٤٩: الإنسان ملكٌ مشاع، ربما يوفقك الله لا لأجلك؛ بل لأجل أمٍّ تدعو لك، أو أبٌ يرجو صلاحك، أو حبيبٌ صالحٌ يسألُ اللهَ رعايتك ..

    “مُهَلَّلَـةٌ   شِيـبُ   الوُجُـوهِ  كأنَّـها
    قِـدَاحٌ  بأيـدي  ياسِـرٍ  تَتَقَلْقَـلُ”

    – الشنفرى


    قلتُ ٥٠: انتهت قلاقلي رحمني الله، وهممت هذه المرة أن أعتزل القلقلة فعلًا، وأنا أعلم يقينًا أنّني سأتراجع عن ذلك، فأنا إن هممت؛ لا أفعل في الغالب، لكنّني سأحاول الصملة، وهذه كلّها ظروفٌ عائِدةٌ إلى السلطة التقديرية التي تحكم حسن سير الديوان العام للتجديف وانتظامه.

    أضف تعليق